سلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ما يقال في التلقين (أو التعلم بالملعقة):
التلقين: هو تلقي المعلومات الخارجية والاحتفاظ بها في داخل الدماغ، بدون العمل على غربلتها؛ سواء بالتحقق من مدى صحتها أو تطويرها، حسب الظروف المختلفة، وإنما تبقى مخزونًا خامًا، لا مجال أبدًا لتكريره بغية الاستفادة المتنوعة منه؛ مما يعني أنها إعاقة تامة للعقل البشري، ومنْعه من أن يقوم بواجبه الطبيعي المراد له في خدمة الإنسان، وفْق مختلف الأزمنة والأمكنة!
لا يخفى على المتتبع لمسيرة التعليم في الدول المتقدمة جهود الولايات المتحدة الأمريكية في تطوير محتوى وطرق وأساليب تدريس كل من العلوم والرياضيات منذ أن فوجئت في العام 1957م بإطلاق القمر الاصطناعي سبوتنيك Sputnik من قبل الاتحاد السوفيتي. ومنذ ذلك العهد خضعت مناهج الرياضيات في الولايات المتحدة الأمريكية لعدد من التغيرات و الاجتهادات بغرض التطوير ورفع أداء الطلاب في هذه المادة. ويمكن تقسيم فترات التغيير إلى فترات الستينات ثم السبعينات ثم الثمانينات التي ظهرت الدعوة فيها قوية للتطوير, ففي هذه الفترة ظهر تقرير "أمة في خطر"(a nation at risk)عام 1983 ، أهم وثيقة عن التعليم في أمريكا خلال العقود الماضية. الذي يؤكد أن مشكلات الأمة الأمريكية في التعليم ترجع بالدرجة الأولى إلى انخفاض المستويات الأكاديمية للطلاب، وإلى تدني نوعية التعليم وأشار أيضا بأصابع الاتهام للمعلم نفسه. وواكبه عدد من التقارير في مجال الرياضيات مثلAgenda for Action تلاها تقرير Everybody Counts ثم وثيقة معايير منهج وتقويم الرياضيات المدرسيةStandards for Curriculum and Evaluation for School Mathematics , وهذه الوثيقة الأخيرة كان لها الأثر البالغ على تطوير تدريس الرياضيات في مدارس التعليم العام في الولايات المتحدة . وظلت اللجنة التي أصدرت تقرير "أمة في خطر" منعقدة حتى نهاية القرن العشرين ذلك التقرير مهد أيضا لظهور الخطوة التي رسمها الرئيس بوش عام1990بعنوان أمريكا عام 2000 استراتيجية للتعليم المتضمنة الكثير من اتجاهات الإصلاح التي نادى بها تقرير 1983.
ومنذ أربع سنوات اكتشفت الولايات المتحدة أن نظام التعليم في اليابان وكوريا الجنوبية يتفوق على نظام التعليم عندها؛ فأقامت الوزارة مؤتمراً دُعي إليه كبار رجال الدولة والمؤثرون في المجتمع تحت عنوان "أمة في خطر"؛ وذلك لأنه إذا كان خريجو الجامعات من هذين البلدين سيتفوقون على خريجي الجامعات في أمريكا؛ فإنها ستكون في خطر بعد عشر سنوات أو عشرين سنة. وعزته إلى قصور نسبي في نظامها التعليمي، فأجرت الإصلاحات اللازمة. كما أن الأوروبيين أيضا يجرون تعديلات على نظامهم التعليمي (مثلاً برنامج أوريكا). جدير بالذكر أن التعليم يحتل قائمة أجندة اليونسكو، ويشغل اهتمام صانعي السياسة في كل دول العالم .
في نفس التوقيت أقامت إحدى الدول النامية مؤتمرًا عن التعلم في بلادها، وعلى الرغم من المشاكل الهائلة في هذه الدولة التي تتعلق بالمناهج والمدارس والطالب والجو العام للعملية التعليمية وعدم الاعتناء بالنابغين وغير ذلك من العوامل المتداخلة ــــ فإن عنوان المؤتمر كان "أمة لها مستقبل"... فإذا كان حال الأمم المتقدمة تجاه منظومتها التعليمية بهذا القدر من التخوف على نوعيتها ومدى ملاءمتها باعتبارها أهم المشاكل التي تواجه كيانها وتهدد وجودها ؛ فإن البلدان العربية أحوج ما تكون إلى مثل هذه المراجعة المستندة إلى التحليل الاقتصادي وإلى قيم اكتساب المعرفة في التطور الإنساني. إن الفارق الأساسي بين البلدين هو الفارق بين النظرتين على هذا المستوى؛ الفارق بين من يخاف من مشكلة قد تحدث بعد عدة سنوات؛ فيعد لها العدة ومن يغفل عن مشكلة تحيط به من جميع جوانبه..
إننا في موقف خطير ينبغي للمسئولين عن التعليم في كل بلد عربي أن يتداركوه فقد نمنا وأدلج أعداؤنا وتكاسلنا وجدّوا وقنعنا بالثقافة الشكلية والمعلبة التي هي سرّ تخلفنا في كل جوانب الحياة , وأي تقدم يأتي بغير تعليم ...
أننا نقبل منجزات الغرب الحضارية وتقنياته التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا.بينما كان أجدر بنا أن نرصد طرق التفكير وأسلوب الحضارة والتعليم السائدة في الغرب. الأحرى أن نعود إلى القرون الوسطى عندما لم يكن لأمريكا وجود. حين نقل العرب إرث فارس واليونان الحضاري والثقافي والعلمي إلى اللغة العربية ليس فقط بتعريبها وترجمتها، بل بإدخالها في صلب الثقافة العربية تعديلاً وتجاوزاً وتطويراً بحيث تنسجم مع روح العصر فلم يكن غريبا أن يأتي الناس من أوربا وغيرها لتعلم اللغة العربية، كما نذهب اليوم لنتعلم اللغات الأجنبية ؛ فتم ما يعرف بالمثاقفة (acculturation) بين الحضارات المختلفة عن طريق الجدل الواسع والعلني في كل الشؤون الدينية والمذهبية واللغوية والعلمية... دون أي تهديد أو تخوف من الآخر أومن ثقافته.
أمــــا قبــــــل ...
فقد غدت العاصمة العباسية بغداد معملاً يزود العالم بآخر منجزات العصر على المستوى التربوي والعلمي وقف إلى جانبها عدد آخر من المؤسسات التعليمية التي تميزت بصفتها العلمية المنهجية , والتي تعد بحق جامعات أو أكاديميات في العصور الماضية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : جامع الأزهر في القاهرة , وجامع الزيتونة في تونس , والمسجد الأقصى في القدس, المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 1227م وبدأ التدريس فيها عام 1233, و بيت الحكمة في بغداد ,.ودار الحكمة في القاهرة أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 975م.....الخ ثم بدأت بعدها مرحلة جديدة من مراحل الانحدار والتخلف عاشتها البلاد العربية لمدة أربعة قرون من الزمن ركدت فيها الحضارة الإسلامية وجمدت لعدم قدرة الدولة العثمانية على تغذيتها بالتشجيع المعنوي والمادي وإغلاق الشرايين التي كانت تصل بينها وبين الثقافات الأخرى ؛ فاقتصر دور المدرسين على التلقين والتقليد وزيادة عدد الكتاتيب زيادة كمية على حساب نوعية التعليم.
أمـــا بعـــــد ...
فإذا كانت الحملة الفرنسية عام 1798م قد عرّفت المصرين بآلة الطباعة وبالمدارس الأوربية حديثة الطراز إضافة إلى المناهج التعليمية العلمية الحديثة، فقد ترتب على ذلك أيضا تشديد قبضة الاحتلال على واقع التعليم والنظام التعليمي بما يخدم مصالحه السياسية والاقتصادية وممارسة أهدافه الاستعمارية.
مع نهاية القرن السابع عشر وهزيمة الدولة العثمانية عسكريا أمام الجيوش النصرانية الغربية , بدأت السفارات إلى الغرب , وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة , ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في المدارس الإسلامية . ثم عمل الأعداء على شطر نظم التعليم إلى شقين : التعليم الديني والتعليم المدني مع احتواء الأخير على بعض المناهج الشرعية , التي عملوا بعد ذلك على إضعافها من خلال عدة طرق منها :ـ طريقة وضع المنهج , وطريقة تدريسه , وموقع الحصص في اليوم الدراسي , والحط من مدرسيه , وتخفيض عدد ساعات هذه المناهج .. ثم عمدوا بعد ذلك إلى تعديل في هذه المناهج وفق الرؤى العولمية والاتجاهات العلمانية .
إن فكرة العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية ؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة والإخضاع عبر التعليم , عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان واليمن ,وعبر القضاء على المدارس الدينية والمعاهد والجمعيات الخيرية التي تدعمها , ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان .
لقد أصبح واضحا أن قضية المناهج التعليمية لم تعد شأنا داخليا ترتبه الحكومات متى وكيف شاءت , وتهمله أو تؤجله متى وكيف شاءت ؛ وإنما أصبحت شأنا عالميا في ظل ثقافة العولمة وبفعل أدواتها , وأصبح في منطقتنا العربية له أبعاد ثقافية واقتصادية وسياسة بل وعسكرية إذا لزم الأمر .
إن قضية تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية لم تفتر منذ معاهدة كامب ديفيد , ومرورا باتفاقيات مدريد وما تلاها , إلا أنها ازدادت جرأة ووضوحا وصراحة بعد أحداث 11 سبتمبر اذ شنت الدوائر الرسمية ووسائل الإعلام في الغرب حربا ضروسا على مناهج التعليم في العالم الإسلامي متهمة إياها بأنها المسئول الأول عن ظاهرة تفريخ الإرهاب , وقد وضعوا الخطط للتدخل في التعليم في عدة بلدان وتعد مصر وباكستان والسعودية واليمن نماذج على ذلك , حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعما لباكستان مقداره 100مليون دولار لبناء بنك معلومات عن طلاب المدارس القرآنية يهدف لتأمين معلومات أساسية عن كل طالب ومدرس في هذه المدارس .
ترتبط المناهج بهوية الأمة , وتشكل عاملا مهما في إعدادها وتربيتها , ومن ثم فالتعامل معها لا يخضع لتصريحات طائشة ومواقف مندفعة , وإنما تحتاج إلى أن يتعامل معها في ظل أوضاع هادئة بعيدا عن التشنج والانفعال وبعيدا عن الاستجابة لردود الأفعال .
ورغم أن أمريكا تمارس التدخل في خصوصيات الشعوب الأخرى إلا أنها لا ترضى ذلك لنفسها وهي القائلة قبل عشرين عاما على لسان الرئيس الأمريكي رونالد ريجان :" " لو أن هذه المناهج التي بين أيدينا فرضتها علينا أمة من الأمم لاعتبرنا ذلك اعتداءً سافراً علينا " "(( إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى (كير) تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية ، والدهشة سوف تمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد F.B.I قد التقى شيخ الأزهر , ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر ))[1] .
نستطيع أن نقول إن هناك تدنيا في مستوى التعليم في معظم البلدان العربية هذا إذا لم نقل جميعها. وأن أبناءنا في خطر.. والسبب نوعية التعليم الذي يتلقونه، والذي يخرجون بسببه من سوق العمل، وتزيد معدلات البطالة في أغلب الدول العربية، ويتوقع لها أن تزيد أكثر وأكثر إذا لم يسرع القائمون على التعليم بتغيير سياساتنا التعليمية فورًا. و يمكن دراسة ذلك ضمن ما يسمى بالتخطيط التربوي وصعوباته في الوطن العربي. حيث تواجه مدارسنا في مراحلها الأولى ضعفا وضحالة و بهما يتدرج الناشيء حتى يصل إلى الجامعة وهو غير مؤهل للدراسة الجامعية , ولا تستطيع جامعاتنا وهو تواجه هذا العدد الهائل من الطلاب الضعاف أن ترسبهم جميعا بل هي مضطرة ـــ وهم في مستوى متقارب ـــ إلى أن تعتبرهم جميعاً ناجحين . ويمرون من عام إلى عام حتى يفرغوا من دراساتهم الجامعية وعقلياتهم ليست أكبر من عقليات التلاميذ في المدارس الابتدائية والمتوسطة ؛ فجامعاتنا إذا تمنح شهادات ولا تخرج متعلمين .
نحن اليوم في عصر التخصص وقد مضى الوقت الذي يمكن أن نجد فيه من يعرف كل شيء ويتحدث في كل فن . وأن العلوم الحديثة والتقنية هي التي تسيطر في الألفية الثالثة وما سبقها من قرون ثلاثة، على موازين الأحداث، وتهيمن على مصائر الأمم، وتصنع الفرق بين الرفاهية والازدهار والمنعة، وبين التخلف والهزيمة واستجداء إنتاج الآخرين. خصوصا إذا عرفنا أن الثقافة العربية بطبيعتها (ثقافة أدبية)، ويهيمن عليها (الفكر الأدبي) بمعطياته وتفرعاته وأنساقه . ومن البدهي أن الأمم المتقدمة عندما تقلق على نظامها التعليمي من واقع المنافسة الشرسة بين بعضها بعضا، فإن اهتمامها ينصب في الحال على المناهج العلمية، وبرامج التدريب المهني، ووسائل تطوير المهارات التقنية، ولذا كانت الصيحة في أمريكا،عندما اكتشفت في الثمانينيات تحول التلاميذ من القسم العلمي إلي القسم الأدبي بسبب انخفض أداء الطلاب الأمريكان في الرياضيات والعلوم . و أن كوريا الجنوبية عندما توجه تعليمها وتدريبها نحو عصرها ومتقضياته، استطاعت أن تتحول إلى نمر آسيوي، وأن تتمكن خلال عشرين عاما من تسجيل 16380 براءة اختراع في المجال الصناعي والتقني فقط، وأما العالم العربي، الذي يضج بالشعراء والأدباء وأصحاب التخصصات الإنسانية، فلم يسجل سوى 170 براءة اختراع ؛ فمن الضرورة بمكان أن يتحول التعليم في الوطن العربي من مجرد تعليم تلقيني إلى تعليم يقوم على الابتكار والإبداع واستخدام تكنولوجيا العصر؛ حتى يصبح خريجو هذا النوع من التعليم قادرين على اللحاق بسوق العمل الذي لا يقبل الآن خريجي تعليم القرن العشرين.
وأضيف أيضاً أن كتاب "أمة في خطر" الذي كشف ساعتها عن تدني المستوي العلمي للطلاب في ذلك الوقت أكد أنَّ أهم أسباب النهوض هي اللغة الإنجليزية ثم الرياضيات والفيزياء، وأخيرًا الحاسب الآلي، أما عندنا فإن الصورة مقلوبة تمامًا؛ حيث هناك تركيز رسمي على أهمية الحاسب الآلي واللغة الأجنبية في الوقت الذي يتم فيه إهمال اللغة العربية إهمالاً كبيرًا، فاللغات الأجنبية لها أهمية بلا شك، ولكن هذا ليس على حساب اللغة العربية، فاللغة الوطنية أداة فكر، أما اللغة الأجنبية فهي أداة تواصل وهناك فارق كبير بين الأمرين.
التربية والتعليم عملية تغيير مستمرة وشاملة تنتقل بالفرد أو المجتمع من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه , وتتكامل مؤسسات تربوية كثيرة في تحقيق ذلك : كالأسرة والمدرسة والمسجد ... وهذه المؤسسات التربوية تتكامل مع مؤسسات أخرى كالإعلام والثقافة دون أن تعوق احداهما الأخرى في أداء وظائفها , وأن التلاعب به من قبل قوة خارجية هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه . إنها حرب صليبية وان الخطر داهم على الأمة حكاما وشعوبا , ويجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد , وان يعرف الجميع أن روح الأمة أقوى من كل شيء , و أن كل الحلول التي تأتينا مرة من أمريكا وأخري من انجلترا وثالثة من دول أخرى قد ثبت فشلها وسبب ذلك أن التعليم لابد أن ينبع من واقع المجتمع الذي يخرج منه .
الأستاذ /
سالم مبارك الفلق
1/11/2005م
alfalagg@yahoo.com
سالم مبارك الفلق
1/11/2005م
alfalagg@yahoo.com
-----------------------
[1] مجلة البيان العدد173المحرم1423هـ(مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي) كمال حبيب ص/49 .
[1] مجلة البيان العدد173المحرم1423هـ(مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي) كمال حبيب ص/49 .
أمة في خطر مداخلة عن مناهج التعليم في الوطن العربي
|
سالم مبارك الفلق
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق